الحياد المزعوم للبنان… مؤامرة جديدة
صحيفة البناء اللبنانية ـ
د. جمال زهران:
استُحدث مؤخراً مصطلح في خضم الصراع السياسي الذي يعيشه “لبنان”، تلك الدولة التي تمثل واحة الحرية في الوطن العربي، وهو “الحياد”. وقصد من طرحه بأن يكون لبنان دولة محايدة، شريطة تقديم المساعدات والدعومات الخارجية خصوصاً الآتية من أميركا وذراعها المالي العالمي (البنك الدولي وصندوق النقد)، ليواصل لبنان مسيرته في التنمية وخدمة شعبه، وكأن الشعب اللبناني من شدة ما يعانيه أصبح بطوناً تأكل، وعقولاً خاوية! ويتناسى هؤلاء أنّ لبنان وشعبه (الغالبية طبعاً)، هو شعب مقاوم.
لكن المهمّ هنا شرح ما وراء هذه الطروحات الغريبة. فالواضح أنّ الفريق الموالي للأميركان والرجعية العربية حليفة أميركا والصهيونية، جاءت لهم التعليمات من السفيرة الأميركية التي حاولت العبث بالداخل اللبناني للتفتيت والانشطار والاستقطاب، للوقيعة والفتنة بين الفصائل كافة، لكي يمرّروا على ألسنتهم وأحاديثهم الإعلامية ذلك المصطلح، لتخفيف القبضة الأميركية الصهيونية الرجعية على الاقتصاد اللبناني، ومحاولة رفع المعاناة عن الشعب اللبناني، وهؤلاء هم صانعو ذلك بوقاحة وفساد وغطاء أجنبي حمائي، غير مسبوق في التاريخ.
فهذا المصطلح يشير إلى جعل لبنان دولة محايدة، وهو حقّ لا يراد به باطل فحسب، بل هو ليس حقاً من الأصل، أن تصاغ أدوار الدول، وسياستها بأيدي العملاء والاستعماريين، وهو أمر كارثي، ولكن قصد به الآتي:
1 ـ عزل لبنان عن محيطه العربي، ودعوته للانكفاء على ذاته.
2 ـ ضرب سلاح المقاومة وضرورة تسليمه ونزعه، بحيث يصبح لبنان دولة خارج المقاومة، ويمكن تعرّضه للضرب والعدوان عليها بدون قدرة على الردّ أو الردع.
3 ـ إضعاف محور المقاومة، بحيث يكون حياد لبنان، مقدّمة لضرب سورية تمّ العراق ثم إيران، ثم اليمن، وغيرها.
4 ـ اعتبار تنفيذ ذلك في لبنان، بفرض الحياد عليه، أن يكون مقدمة ونموذجاً يحتذى، لتطبيق ذلك في دول عربية عدة أخرى، أو دول أفريقية عدة مثلاً.
ففكرة الدول المحايدة على الحدود للفصل بين دول متصارعة، نشأت في أوروبا عقب الانتهاء من الحرب العالمية الثانية، وبإرادة دولية لتخفيف حدة التوتر والصراعات بالفصل بين الدول المتصارعة في الحرب العالمية الثانية. فتمّ جعل سويسرا والنمسا، أبرز مثلين لدولتين في أوروبا. واعتبرت هاتان الدولتان، دولاً عازلة بين الشرق والغرب، وفرض عليها عدم عضوية الأمم المتحدة، وأن تكون مناطق منزوعة السلاح، بحيث تكون علاقاتها مع جميع الدول بلا تمييز وعلى درجة واحدة ومسافة واحدة من الجميع. إلى الحدّ الذي خُصصت في هاتين الدولتين مقرين للأمم المتحدة، حيث المقرّ الأوروبي، ومقر المنظمات الدولية الكبرى التابعة للأمم المتحدة. وتعرف هذه الدول، بالمناطق العازلة، أو المناطق منزوعة السلاح، وهي المقابل للمصطلح الإنجليزي (Buffer Zones).
وقد بلغت هذه الدول عدداً متوزعاً في القارات المختلفة، بلغ (10) دول، وتطوّر وضع النمسا، حيث سمح لها بالانضمام للأمم المتحدة. كما أنها أصبحت (النمسا) عضواً بالاتحاد الأوروبي، ولا زالت سويسرا كما هي محايدة، بالثقل التاريخي ذاته والأهداف المبتغاة.
فماذا يُقصد إذن بحياد لبنان في العقد الثالث من القرن (21)، بعد (75) عاماً من الانتهاء من الحرب العالمية الثانية، وانعكاسات ذلك مستقبلاً؟ فكما قلنا فإنّ حياد لبنان المزعوم، يُقصد به دعم الكيان الصهيوني، وتأمين الجبهة الشمالية لـ “إسرائيل” وحماية حدودها للأبد، كما حدث مع مصر بعد توقيع كامب ديفيد والمعاهدة المصرية الإسرائيلية (مارس/ آذار 1979)، وتمّ تأمين الجبهة الجنوبية، وآنذاك لن تكون هناك سوى بقية الجبهة الشمالية الشرقية مع سورية، وبالحسابات الصهيونية، فإنّ سورية تصبح واقعة تحت العقوبات وآخرها “قانون قيصر”، والحصار، واستمرار سياسة الإضعاف، وبالتوازي مع العراق. وبالتالي ينفذ المخطط الأميركي الصهيوني والرامي إلى تفتيت محور المقاومة، والاستمرار في تفتيت المنطقة.
ولعل المخاطر المتوقعة، أن يتمّ التوسع في اختيار دول أخرى لتكون محايدة، في أفريقيا مثلاً، بجعل إثيوبيا محمية دولياً واستعمارياً تحت غطاء “الحياد”، لتظلّ خنجراً في ظهر دولتي مصر والسودان (مصبّ نهر النيل)! ويمكن اختيار دولة خليجيّة عربية لتكون محايدة، وتصبح تحت حماية أميركية استعمارية لضمان استمرار ضرب وتفتيت المنطقة. وما هو غير متصوّر الآن، قد يتمّ تنفيذه غداً بكلّ أسف.
إنّ مفهوم الحياد المطروح في لبنان، هو غطاء استعماري أميركي صهيوني جديد. ولن يستسلم محور المقاومة، وسيلقى حلفاء التبعية والاستعمار وعملاء المشروع “الأميركي الصهيوني الرجعي”، هزيمة كبيرة، وسيتجاوز لبنان المحنة الحالية، بالاتجاه شرقاً نحو الصين وروسيا وإيران، وهو المخرج الآن من الأزمة، وهو حادث مؤكداً.
* أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية